إن سيرة نبينا محمد عليه الصلاة لا يسمعها أو يفهمها إنسان ذو فطرة سليمة إلا تدمع عيناه من عظمة هذا النبي الكريم الذي تحمل المشقة والتعب من أجل نشر كلمة التوحيد وتبليغ دين الحق للبشرية جمعاء.
وقد ولد عليه الصلاة والسلام يتيمًا فلم يرى والده، وقد عاش في رعاية أمه وجده، لكن أمه توفيت وهو مازال في الساسة من عمره عليه الصلاة والسلام، وكان معها حين توفيت، فقد أخذته آمنة ليزور أخوال أبيه بني عدي بن النجار في المدينة المنورة، وفي أثناء العودة ماتت ودفنت في الأبواء، وعاد عليه الصلاة والسلام إلى مكة مع حاضنته أم أيمن بعد أن أصبح بلا أب ولا أم.
ولأن النبي عليه الصلاة والسلام كان بشرًا وكان رقيق القلب فقد زار قبر أمه بعد البعثة وبكى حوله، وقد قال عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف” استأذنت ربي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فإذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت”.
وقد تعرض النبي عليه الصلاة والسلام لأشد صور الإيذاء بعد البعثة وحتى من أقرب أقربائه، فقد كان عمه أبو لهب أعلم الناس بأخلاقه وأنه هو الصادق الأمين، وبالرغم من عندما كان انبي عليه الصلاة والسلام يدعو الناس للإسلام والإيمان كان يكذبه.
وفي أحد الروايات أن ربيعة بن عباد الديلي وكان جاهليًا حينها قال أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام، دخل سوق ذي المجاز وقال يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، ويدخل في فجاجها والناس حوله، فلم يقول أحدًا منهم شيئًا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام لايسكت، يقول للناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، إلا أن وراءه رجل أحول وضيء الوجه ذو غديرتين يقول للناس، إنه صابيء كاذب، فلما سأل ربيعة عن النبي قالوا له : محمد بن عبدالله، ولما سأل عن الرجل الذي يكذبه قالوا له عمه أبو لهب.
وقد كان أبو لهب قد زوج ابنيه عتبة وعتيبة من بنات النبي عليه الصلاة والسلام، رقية وأم كلثوم وذلك قبل البعثة النبوية الشريفة، فلما بعث النبي أمر أبو لهب ولديه بتطليق بنتي النبي عليه الصلاة والسلام ايذاءًا له، ولما مات ابن النبي الثاني عبدالله فرح أبو لهب ونعت النبي عليه الصلاة والسلام بالأبتر.
وكانت زوجة أبو لهب أم جميل تأخذ الشوك فتلقيه في طريق النبي عليه الصلاة والسلام وكانت تسبه عليه الصلاة والسلام وتذمه في شعرها، وقد توعدهما الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة المسد.
وقد استمر ايذاء قريش للنبي عليه الصلاة والسلام طوال السنوات التي قضاها في مكة المكرمة قبل الهجرة، ومما رواه بن مسعود أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي عند الكعبة، وكان أبو لهب وأصحابه جالسين وقد نحرت بعض النوق في اليوم السابق، فقال أبو جهل لأصحابه أيكم يقوم إلى سلا جذور أي الأمعاء التي خرجت من الذبيحة، فليقيها في كتفي محمد إذا سجد.
فانبعث أشقى هؤلاء وهو عقبة بن معيط ووضعها بين كتفي النبي الشريفتين، وضحك الكفار، وكان بن مسعود رضي الله عنه ينظر لكنه كان ضعيفًا نحيلًا، فلم يستطيع طرح الأذى عن كتفي النبي عليه الصلاة والسلام الذي ظل ساجدًا لا يرفع ظهره، حتى وصل الخبر للسيدة فاطمة رضي الله عنها ، فجاءت وطرحته عنه.
وقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه مستضعفين يعذبون أشد العذاب ولم يكن النبي عليه الصلاة بقادر على دفع الإيذاء عنهم، لكنه عليه الصلاة لم يكن يسعى لدنيا ولم يعد أصحابه بمال أو متاع زائل، لكنهم وعدهم جنة عرضها السموات الأرض أعدت للمتقين، وكان هذا دافعهم على الصبر، كما أيقن النبي عليه الصلاة والسلام والذين ءامنوا معه أن العبودية لله عز وجل تكليف يستلزم تحمل المشقة ومجاهدة النفس.
وقد بلغ بالكفار أنهم اتفقوا فيما بينهم على مقاطعة بنو هاشم ولا يجالسوهم أو يتزوجوا منهم إلا بعد أن يسلموهم النبي عليه الصلاة والسلام، وقد كتبوا وثيقة بهذا الاتفاق الجائر وعلقوها في سقف الكعبة.
وقد اجتمعوا وحبسوا النبي عليه الصلاة والسلام ومن ءامن معه شعب أبو طالب وظلوا محبوسين في الشعب ثلاثة سنوات حتى كان بكاء أطفالهم يسمع من وراء الشعب من شدة تعبهم، وكان الرجل من المسلمين يحاول الذهاب للسوق لشراء قوت لعياله، فيقول أبو لهب غالوا على أصحاب محمد، فيرجع الصحابي لعياله دون أن يشتري أي شيء ليطعمهم.
وقد أضنى الجوع أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام حتى رقت لهم قلوب بعض أهل قريش فكان أحدهم يضع الزاد على البعير ويضربه ليسير نحو الشعب ليخفف عن المحصورين فيه بعض ما هم فيه.
وقد ازداد الحزن على النبي بوفاة زوجته وأم أبنائه وأول من ءامن به وسانده وآزره في كل أوقاته خديجة رضي الله والتي قال عنها صلى الله عليه وسلم أنها من أكمل النساء، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد.
كما قال عليه الصلاة والسلام عن خديجة رضي الله عنها: “سيدات نساء أهل الجنة بعد مريم بنت عمران فاطمة وخديجة وآسية امرأة فرعون”.
وقد ظلت خديجة رضي الله عنها في قلب النبي يذكرها ويثني عليها حتى وفاته عليه الصلاة والسلام.
وفي نفس العام فقد عليه الصلاة والسلام إنسان أخر عزيز عليه عمه أبا طالب الذي كفله ورباه وأحسن إليه ودفع عنه كثير من أذى الكفار.
وكان مما زاد من حزن النبي عليه الصلاة والسلام أن عمه رفض نطق الشهادتين قبل أن يلفظ أنفاسه، فكان عليه الصلاة والسلام يقف عند رأسه حين أتته المنية يقول له ” يا عم قل لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله”.
بينما على الجانب كان أبو جهل وعبدالله بن أبي أمية يقولان له يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب حتى لفظ أنفاسه وهو على الكفر، وسمي هذا العام بعام الحزن لشدة الخزن الذي دخل على قلب النبي عليه الصلاة والسلام فيه
أيضًا كان نبينا الكريم عمره واحد ستين عامًا تقريبًا عندما أنجبت له السيدة مارية القبطية ابنه إبراهيم، وكانت قريش تلقبه بالأبتر أي الذي انقطع ولده، ففرح به النبي فرحًا شديدًا.
وكان إبراهيم يشبه النبي عليه الصلاة والسلام ولكنه مات وهو ابن ستة عشر شهرًا، فلما علم النبي الخبر قال للصحابة لا تدرجوه في أكفانه حتى أنظر إليه، وذهب إليه النبي وهو في حجر أمه فأخذه ووضعه في حجره الشريف وانكب عليه وبكى حتى اضطربت لحيته وجنباه.
فقال أبو بكر وعمر للنبي عليه الصلاة والسلام لهما” تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الله، ولولا أنع وعد صادق وموعود جامع وأن الآخر منا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدًا أشد ما وجدنا وغنا بك يا إبراهيم لمحزونون”.
وقد كسفت الشمس في يوم وفاة إبراهيم، فقال الصحابة أن الشمس قد كسف حزنًا لحزن النبي عليه الصلاة والسلام لوفاة ابنه.
لكن النبي عليه الصلاة والسلام بالرغم ما كان فيه قام فخطب فيهم ونهاههم عن أن يرددوا أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، فقال لهم ” إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة”.