هذه المرة لم أشعر بمذاق حبيبات السكر الذائبة بفنجان قهوتي ، ربما من قام بإعداده تعمد تقديمه بلا نكهة حلوة ! ، لعل هذا الفاعل لم يكن يقصد إثارة ضيقي ، لعله عجز عن اعداد القهوة ، وربما لم يتأمل قيمة السكر وسيمفونياته صاحبة المذاق المتفائل !
قلق :
تزاحمت الافتراضات ذات الوجاهة المنطقية برأسي ، إلى أن قاطع صوتها المؤمن حبل أفكاري المرتبكة قائلة : أتمنى أن تكون القهوة عجبتك ، انتفضت عيناي في قلق ، وعلى وجه السرعة ، قمت بتعديل جلستي في تأدب ، لم تكن وضعية جلوسي تعني لها شيئاً ، فهي طيلة الوقت تعقد صفقة تعايش مع طبقاتي الصوتية ، دون الالتفات لغيرها .. فصوتي هو سفيري هناك بعالمها المظلم ..
تزاحم أفكار وصراع :
هبطت عبارتها المتسائلة على نفسي ، كأمطار طال انتظارها على نيران حارقة ، والعجيب في نفسي كانت تحرقني بصراخها المدوي في داخلي ، صراخها الجاهل للغة الرحمة وأبجديات الرقي ! .. فكلما علا صوتها المتعجرف ، أنصت إليها ، وكلما أنصت تألمت ..
لوم النفس :
فكيف تجرؤ تلك النفس الأمارة ، على أن تطالبني بلوم السيدة على ضياع مذاق حبيبات السكر من الفنجان ، وبأي منطق إنساني يتعالى دويها ، عازمة على إحداث ضجة ، لإضافة بعض من السكر إلى قهوتي لكي تشعر بلذتها الوقتية ، لست أرى أكثر من حديثها إلا برهاناً على أنانيتها وضآلة حجمها ..
النفس اللوامة :
خيمت على روحي حالة من الأسى ، والرغبة العاجلة في التمرد على هذه النفس ، فهي تطالبني باللوم على من فقدت لذتها البصرية لسنوات طويلة ، دون أن تشعر بالقنوط أو السخط ، وإرهاقها معنويا لإفقادها لذة تذوق ، تستغرق نصف ساعة أو أكثر أو أقل ! آنذاك شعرت بثورة شابة تهزني باحتراف ، فاستجمعت ما لدي من إحساس ونقاء ، وأخرجت نبرات باسمة قائلة : .. قهوتك رائعة .. أشكرك .
رد فعل السائلة :
لامس صوتي روحها ، فابتسمت بطهر ، وأخذت تسرد لي ما قاله الأطباء عن عينيها غير المبصرتين ، مرتدية بدلة الراوي الحكيم ، فبدت تتقاسم معي حكايتها ، بعدما سكنت دنيا الظلام على يد زوجها شارب الخمور ، الذي طالما أهانها بالضرب والتجريح ، بل وأنهى حياته معها ، بعد أن اغتال بصرها راحلاً لعالم المتعة الرخيصة الثمن ..
غفلة واستفاقة :
تركها سارق بصرها أماً كفيفة لطفلين ، لا يملكان شيئاً سوى نوايا كقطرات الندى الصابحة ، كلما حدثتني صوبت عينيها المظلمتين إلى كياني المادي ، وكأنها تراني حقاً ، جعلتني أستشعر ضياءً قدسياً لا يمنحه الله إلا لمن أراد ، حتى وإن منح تأشيرة الرحيل والإبصار وعالمه !
أحياناً لا يذوب السكر :
واصلت انصاتي لحديثها الروحاني ، بلا هوادة إلى أن سقطت من عيني دمعة مالحة المذاق ، عزمت على البقاء داخل الفنجان ، حينها فقط أيقنت سبب رحيل مذاق السكر من قهوتي .