يُحكى أنه في زمن الخليفة المعتضد بالله العباسي سنة 281 هجرية كان لشيخًا من التجار ببغداد دين عند أحد الأمراء ، وهو ليس بالدين القليل ، وكان كلما طلب المال يرفض الأمير ويمنعه من مقابلته حتى وصل به الحال أن أمر غلمانه بطرده وأذيته حينما يأتي للمطالبة بماله ، فاشتكى التاجر ذلك إلى الوالي ، ولكنه لم يفعل شيئًا ، فلم يزد الأمير ذلك إلا منعًا وجحودًا .
فآيس الرجل من المال الذي عند الأمير ، واعتلاه الهم من جهته فبينما هو كذلك حائر لمن يشتكي أمره ، قال له رجل تقي لما لا تشتكيه إلى فلان الخياط إمام المسجد ، فتعجب التاجر وقال لم يقدر عليه الوالي فماذا عسى الخياط أن يفعل في هذا الأمر ، وأعيان الدولة لم يقطعوا فيه أمرًا .
فقال له الرجل إنه أقطع وأخوف عنده من كل من اشتكيته إليهم ، وبالفعل ذهب التاجر إلى إمام المسجد ، وحكى إليه ما فعله الأمير من حجب الدين عنه وإيذائه ، فقام معه الخياط وذهبا سويًا إلى الأمير ، فلما رآه الأمير احترمه وأكرمه .
فدنا منه الخياط وقال له : ادفع إلى هذا الرجل حقه وإلا أذنت ، حينئذ تغير لون الأمير وعلى الفور رد إلى التاجر حقه فور ، فتعجب التاجر من ذلك أشد العجب ، وتساءل في نفسه : كيف لتاجر فقير مع رثاية حاله وضعف بنيته أن يأمر الأمير وينطاع له ، ولم يكتم الرجل فضوله وسأل الخياط عن خبره .
فقال الخياط : إن سبب ذلك حادثة وقعت مع أمير تركي كان يسكن في جوارنا ، فمرت به ذات يوم امرأة لها من الجمال قدر كبير ، وكانت قد خرجت من الحمام لتوها ، فقام إليها وهو في حالة من السكر يريدها عن نفسها ، وحاول أن يدخلها منزله فأخذت تصرخ وتستنجد بالمسلمين قائلة : يا مسلمين أنا امرأة مسلمة ، ومتزوجة ، وهذا الرجل يحاول أن يدخلني منزله بالقوة .
فقال الخياط : فقمت إليه أنكر عليه فعلته ، وحاولت تخليص المرأة من بين يديه ، فضربني بدبوس فى يده فشج رأسي واستطاع بقوته أن يغلب المرأة على نفسها ويدخلها منزله رغمًا عنها ، فعدت إلى المسجد ، وغسلت الدم ثم عصبت رأسي وبعدها صليت بالناس العشاء ، ولما انتهيت أخبرت المصلين بما فعل ، وطلبت منهم أن يقوموا معي لننكر عليه فعلته ونخلص تلك المسكينة من بين يديه .
فقام الناس معي وهجمنا على داره ، ولكنه أتى في جماعته بالعصي والدبابيس ، فكانوا يضربون الناس بقوة ، وقصدني هو بالضرب فأدماني حتى تفرقنا وخرجنا من منزله مهانين مصابين ، فعدت أنا من بينهم إلى منزلي وأنا لا أكاد أهتدي للطريق من فرط الألم ، ونمت على فراشي فلم أستطيع النوم قبل أن أنقذ تلك المرأة من بين يديه ، وأخذت أفكر ماذا يمكن أن أفعل من أجلها ؟
وهداني الله أن أؤذن للفجر في إناء الليل حتى يظن أن الصبح قد طلع ، فيفرج عنها ويخرجها من داره ، فصعدت المنارة ثم أذنت وعيني على داره أرقب هل ستخرج المرأة أم لا ؟ ، وبينما أنا كذلك إذا انتشر الفرسان والرجال في كل أنحاء الطرق يبحثون عن من أذن في تلك الساعة ، فقلت لهم ها أنا ذا ظننًا مني أنهن جاؤوا ليعنوني على ذلك الأمير الفاسق .
ولكنهم طلبوا مني أن أنزل لمقابلة أمير المؤمنين ، فنزلت والخوف يعبث بقلبي ، ولما أدخلوني عليه رأيته جالسًا في مقام الخلافة ، وطلب مني أن أدنو منه ، فلما دنوت تبين الخوف في وجهي فهدأ من روعي ، وقال لي : هل أنت الذي أذنت في تلك الساعة ؟ فأجبت نعم يا أمير المؤمنين .
فقال لي : وما حملك على فعل ذلك ولم يمضي من الليل أكثر مما بقى ، فتغر بذلك المسافر والصائم والمصلي ، فقلت له : أيعطينني أمير المؤمنين الأمان وأخبره بقصتي ، فقال لي : أنت أمن ، فقصصت عليه خبر المرأة والأمير الفاسق ، فلما سمع ذلك غضب غضبًا شديدًا ، وأمر بامتثال الأمير والمرأة بين يديه .
فأحضرا على الفور ، وأمر بالمرأة فأرسلت إلى زوجها في جماعة من النسوة الثقات ، وثقة من جهته أمرها أن تبلغ زوجها بالصفح عنها والإحسان إليها ، فهي مكرهة معذورة على أمرها ، وأمر با أمير فسأله : كم عندك من الرزق ، والجواري والزوجات ، فعدد له الأمير الكثير ، فقال له أمير المؤمنين : ويحك أما كفاك كل تلك النعم ، فتعديت على حرمة الله وتخطيت حدوده .
وما كفاك ذلك ، فتعديت على رجل أمرك بالمعروف ونهاك عن الإتيان بالمنكر ، فلم ينطق الأمير بكلمة واحدة ، فأمر به الخليفة أن يوثق بالقيود من رجله حتى عنقه ويوضع في جوال ويضرب بالدبابيس ضربًا مبرحًا عقابًا له عن ما فعل ، وبعدها أمر به أن يلقى فكان ذلك أخر عهدي به .
ولم يكتفي الخليفة بذلك فجرد من ماله الذي كان يرده من بيت مال المسلمين ، ومن يومها أمرني كلما رأيت منكرًا صغيرًا كان أو كبيرًا ، أن أجتمع به وأخبره وعلامة بيني وبيه الأذان ، فإذا أذنت في أي وقت غير توقيت الصلاة فهذا يعني وقوع منكر ما ، ومن يومها وكلما رأيت منكرًا أمر صاحبه أن يرتجع عنه وإلا أذنت ، فامتثل الجميع حتى أكبر رجال الدولة خوفًا من المعتضد ، ومن يومها حتى الآن لم ألجأ للأذان .