جمعت رحمة البالغة من العمر ثماني عشر عام ، ومحمد الذي كان يكبرها ثلاثة أعوام قصة ، حب قوية وكانا يحسبان أن لا يعلم بتلك القصة ، حتى تزوجا وكانا سعيدين وقليلاً تلك الزيجات ، التي توجت قصة حب في تلك القرية النائية ، ولكن بعد عامين ضربهم القدر بقوة وقسوة .
ذات يوم كان محمد راكباً شاحنة ، قد قلتهم من إحدى الأسواق الأسبوعية القريبة ، وإذ بالشاحنة تنقلب ومات عدد ، من الركاب وكان محمد واحداً من هؤلاء ، ويا لها من فاجعة فلم يؤتى بمحمد أن يرى مولودة ، حيث كانت زوجته رحمة حاملاً في شهرها السادس وتحملت ، رحمة هول الفاجعة بصبر المؤمنات .
كانت رحمة تعلم أن المصيبة كبيرة ، وأن الذي حدث في ذلك اليوم قد عصف بأحلام كثيرة كانا يغذياها يوماً بعد يوم ، وراحت رحمة تنفق من مدخرات ، قد تركها لها زوجها الراحل وبعد ثلاثة أشهر ، جاءها المخاض ووضعت ولداً جعلها تبكي فرحة ، وألماً وتمنت لو كان زوجها محمد ، حياً حتى يرى ولده .
كانت رحمة تنتظر ما تنقضي به ، الدعوة المدنية المرفوعة على شركة التأمين ، وبعد أكثر من سنة قضت المحكمة لرحمة ، بتعويض قيمته خمسون ألفاً ولمولدها ، تعويض قدره سبعون ألفاً وأنفقت رحمة ما حصلت عليه ، من تعويض واشترت منزلاً متواضعاً في قريتها
كانت المصاريف تنهكها ، فكل أم ترجو لولدها أجمل ما في الحياة ، فخرجت للبحث عن عمل وكانت فتاة جميلة ، وكان في ذلك الوقت رائجاً أنشطة المهربين ، وكانت رحمة تعلم أن نساء كثيرات تعملن في تهريب البضائع ، فتخصصت رحمة في تهريب الساعات .
وفر لها ذلك العمل دخلاً منتظماً ، وكانت تستطيع العودة عصراُ كل يوم للاعتناء بمولودها ، وأصبحت سيدة قرارها وهذا ما كانت تريده ، وبينما كانت في إحدى الأسواق تقدم نحوها رجل أنيق الملبس ، وطلب منها أن تخرج له ألف ساعة يدوية ، خارج البلدة وعرض عليها مبلغاً مالياً كبيراً ، فوافقت واشترطت ألا يطالبها بالتعويض ، أن وقعت في قبضة الجمارك .
وافق الرجل وأعطى رحمة صندوقاً مغلقاً ، قد أخبرها أنه يحتوي على الساعات المراد تهريبها ، فوثقت به ولم تفتح الصندوق وفى ذلك اليوم أوقفها ، رجال الجمارك للتفتيش وأمروا بفتح الصندوق ، وإذ به ساعات يدوية أعلاه إما في قاع الصندوق ، فأكتشف رجال الجمارك وجود مسدساً ، من عيار تسعة مليمتر .
تم تقديم رحمة إلى مكتب رئيس الجمارك ، الذي أحالها إلى عميد الشرطة ولم تعد القضية تهريب ساعات فقط ، بل تهريب سلاح ناري وأخبرت رحمة المحققين ، أنها لم تكن تعلم بأمر المسدس وأن رجلاً طلب منها ، تهريب تلك الساعات لخارج البلدة ، فحاول العميد العثور على ذلك الرجل ، لكن لم يعثر له على أثر .
فأحيلت رحمة إلى النيابة العامة بتهمة حيازة ، وحمل سلاح بدون رخصة ودخلت السجن وأحضروا لها ولدها ، الذي لم يتجاوز عامه الأول بعد ، وتقاسمت الزنزانة مع سيدات ذات سوابق ، ولما علمت أحداهن بقضية رحمة هولت لها ، الذي ينتظرها وأخبرتها أنه قد يحكم عليها بالسجن ، لأكتر من عشرة سنوات .
فأصاب رحمة الخوف الشديد مما سمعته ، ولم يغمض لها جفن وباتت تفكر في وسيلة تخلصها ، مما هي فيه ولم تقوى على تصور ابنها ، يكبر في السجن وهي التي كانت تحلم له ، بمستقبل باسم .
تذكرت رحمة وجود نافذة في المرحاض ، الذي قصدته قبل الدخول إلى الزنزانة ففي الصباح ، تظاهرت رحمة بحاجتها للذهاب إلى المرحاض ، وكانت تحمل ولدها فسلمت الصبي إلى السجينة التي كانت ترافقها ، وهمست في أذنها بأن تضع الطفل في جمعية خيرية أن لم تعود .
أسرعت رحمة إلى المرحاض وأقفلت الباب خلفها ، وظل الحارس واقفاً بالباب وطال انتظراه فراوده شك ، وقرع الباب ولم يكن من مجيب فأقتحم الباب ، ولم تكن رحمة هناك فأسرع وأطلق الانذار وبحثوا عنها ، في كل مكان بالسجن ولم يعثر لها على أثر ، وتسللت رحمة إلى البلدة المجاورة .
قررت المحكمة تسليم الطفل ، إلى إحدى الجمعيات الخيرية ، وكان لم يكف عن البكاء وكأنه يفتقد حضن أمه ، ولكن كان عميد الشرطة لم يرزق طفلاً ، فعرض على زوجته تولي أمر الطفل ، فرحبت بالفكرة حتى يجد جديد في قصة رحمة الهاربة ، وفى ذلك المنزل حصل الطفل على رعاية فائقة .
فتقدم العميد بعد فترة بطلب كفالة الطفل ، وحرص أن يحفظ للصبي اسمه ، الشخصي والعائلي وبعد عدة سنوات ، تم إبلاغ الطفل بأن العميد وزوجته لم يكونا ، هما ابويه الحقيقين فتقبل تلك الحقيقة .
وكان الصبي متفوقاً في دراسته ، حتى ألتحق بكلية الحقوق وبعد التخرج ، تم تعينه رئيساً لقسم الشئون العامة ، وبعدها توفى عميد الشرطة الذي تكفل به ، وظل يعتني بوالدته التي لم تلده ، ويبادلها الحنان .
وبالرغم من السعادة التي عاش بها ، إلا أن مهمة البحث عن أمه الحقيقة ، ظلت تشغله وكانت أمه منذ هربها قد اوتها إحدى السيدات وعملت معها خادمة في المنزل ، ولم تعود إلى قريتها لأنها تعلم أنه هناك ، ستشن حملات البحث عنها ولم تكن تعلم أي أخبار عن ولدها ، منذ أن هربت لكن كانت تشعر يقيناً ، إنها ستلقاه يومًا.
بعد مرور عشرة سنوات علمت رحمة ، أن ملف قضيتها قد أغلقته المحكمة ، فعادت إلى منزلها في القرية وقضت ليلها هناك ، وفجأة أحست أن الأرض تهتز من تحت فراشها ، وكان قد أصابه المدينة هزة أرضية شديدة ، وتحول منزلها إلى ركام وحطام ، وقامت فرق الانقاذ بنقل السكان أحياء منهم ، وأموات إلى المستشفى وعثر على رحمة حية .
تفقد ولدها بحكم عمله المصابون في المشفى ، ووقف عند فراش رحمة وما أن نظرت له حتى عرفته فملامحه ، لم تتغير كثيرًا ففاجئته باحتضانه فبهدوء سألها ، عن ما إذ كانت تعرفه حتى تحضنه فأخبرته اسمه ، وتعجب من معرفتها اسمه ، وكرر سؤاله فأخبرته أنها والدته ، وكان الرد صادماً .
طلب من المشفى وثائق هوية تلك المرأة ، وتأكد من هويتها واسمها التي ذكرته له وكان يعلم اسم والدته ، ولم يصدق ما يعيش به من لحظات في ذلك اليوم ، واصطحبها إلى منزله خاصة بعد سقوط منزلها ، ولم يكن يعلم أن حطام ذلك المنزل وهدمه ، قد بنى له حلمه الذي ظل سنوات يحلم بتحقيقه.
طلب من المشفى وثائق هوية تلك المرأة ، وتأكد من هويتها واسمها التي ذكرته له وكان يعلم اسم والدته ، ولم يصدق ما يعيش به من لحظات في ذلك اليوم ، واصطحبها إلى منزله خاصة بعد سقوط منزلها ، ولم يكن يعلم أن حطام ذلك المنزل وهدمه ، قد بنى له حلمه الذي ظل سنوات يحلم بتحقيقه.