في قرية من القرى النائية ، كانَ يوجد شيخ كبير في السن ، يحيا حياة بسيطة جدًا ، وكان غالبًا ما يعتمد في الحصول على قوط يومه ، من قيامه بمعالجة المرضى ، من أهل القرية ، وكان ذلك الشيخ يتسم بخلقه الحسن ، وصفاته الرفيعة ، فما عرفه أحد ، إلا أحبه حبًا جمًا ، لما كان يتسم من لطف في المعاملة ، ومحبة للناس ، فكان ودودًا ، رقيق القلب ، لا يتكبر ، ولا يتعالى .
كما أنه كان يعالج الفقراء من أهل القرية ، بدون أي مقابل ، مما نال على حب الناس ، واحترامهم ، مما جعلوه مثلًا أعلى ، يحتذى به ، ليس في مجال الطب وحده ، وإنما في جميع مناحي الحياة ، سواء أكان على المستوى الاجتماعي ، أو العلمي ، أو على مستوى الفضيلة ، والأخلاق الرفيعة ، والتعاملات اليومية ، كما عرف عنه رحلاته الدورية ، وذهابه مع البعض ممن يعملون في مهنة الصيد في قريته ، إلى العديد من الرحلات البحرية ، حتى يتزود ذلك الشيخ بمزيد من الأعشاب الطبية ، التي تفيد في علاج أهل قريته .
وفي ليلة من الليالي ، في وقت متأخر جدًا ، وبعد أن نام الشيخ ، إذ برجل غريب ، قد بدى عليه الإعياء الشديد ، يطرق باب الشيخ ، ويترجاه ، كي يساعده ، فقد اشتد به المرض ، دون جدوى ، على الفور ، ساعد شيخنا الرجل ، حتى نهض معه ، وقد أدخله في البيت ، وقام بعلاجه حق العلاج ، واستضافه حق الاستضافة ، لمدة ثلاثة أيام متتالية ، دون أن يخبر أي أحد ، وكان ذلك بناء على طلب المريض ، حتى أن الشيخ لم يسأله عن السبب ، واكتفى بحسن ضيافته .
وفي صبيحة اليوم الرابع ، أصبح الشيخ ، وأخذ يبحث عن المريض ، فلم يجد له أثر ، فقد غادر المنزل ، حتى دون أن يخبر الشيخ ، وفي يوم من الأيام ، جاء موعد الرحلة البحرية للشيخ مع الصيادين ، وكان موعدهم في هذا اليوم ، في إحدى البلاد الواقعة على الضفة المقابلة لساحل القرية ، فتوكلوا على الله ، وذهبوا سويًا ( البحارون والصيادون والشيخ ) ، وركبوا سفينتهم ، وغادروا .
ظلت السفينة تسير بهم ، إلى أن وصلوا إلى المنتصف ، وقد فوجئوا بماء يتخلل السفينة ، ويتسرب إليها من خلال ثقب صغير الحجم ، اجتمع ركاب السفينة جميعًا ، في محاولة منهم أن يسدوا الثقب ، ولكن دون جدوى ، فقد اتسع الثقب عما كان عليه ، فاجتمع رأيهم على العودة إلى القرية ، ولكن لقد قطعوا شوطًا كبيرة ، والمسافة التي تفصلهم عن القرية بعيدة جدًا ، مما أوقفهم في حيرة ، وبينما هم في حيرتهم ، ظهرت سفينة بعيدة ، مقبلة عليهم ، فاستبشروا فيها خيرًا ، واطمأن بالهم بعض الشيء .
ولما اقتربت السفينة ، حدث ما لم يكن بالحسبان ، حيث وجدوا على السفينة علمًا للقراصنة ، فحال أمرهم إلى الفزع الشديد ، وما زادهم فزعًا ، أن السفينة كانت ضخمة الحجم ، تضم أعدادًا كبيرة للغاية من القراصنة ، فلا شك من سطوهم على سفينتهم ، وهم لا حول لهم ، ولا قوة ، جاءت السفينة ، واقتربت ، وبينما هم كذلك ، إذ انقض القراصنة عليهم ، وبدأت محاولاتهم في السرقة ، والنهب .
وكان زعيمهم يحرض رجاله على نهب ما لدى أي راكب من ركاب السفينة ، وبينما هو يحرضهم ، إذ وقعت عيناه على الشيخ ، وكذلك رآه الشيخ ، فهو نفسه الرجل الذي داواه منذ أيام قليلة ، وأحسن ضيافته ، دون أن يعرفه ، وعلى الفور أمر رجاله بالكف عما هم بصدده ،وأمرهم بالإسراع في نقل أمتعة رجال القرية ، إلى سفينة القراصنة ، ومساعدة رجالها ، قبل أن تغرق بهم سفينتهم ، مما أصاب الجميع بالدهشة .
وبينما الجميع في حيرة ، وقد كثرت تساؤلاتهم ، إذ بالزعيم يقبل على الشيخ ، وأخذ يعانقه عناقًا حارًا ، وساعده ، حتى وصل به إلى الضفة الأخرى ، وقد أعطى الأمر لرجاله بإصلاح سفينة أهل القرية ، وعقد النية على ألا يعود إلى فعلته أبدًا ، وعاش بين أهل القرية في سلام ، كل هذا نتيجة الأخلاق الحميدة التي اتصف بها الشيخ ، وأعماله الخيرية ، التي يطول أثرها مهما مر من الزمان .
فالخير كامن ، حتى ولو في إنسان تقوده نفسه إلى الشر ، الفضيلة ، والغرائز الطيبة ، من شأنها أن تقضي على ذلك جميعًا ، فلنسعى جاهدين إلى عمل الخير ، ولنتحلى بحسن الخلق ، فهو بر الأمان ، مهما شاع الفساد ، فالأخلاق والفضيلة ، هما في الأصل مصدر سعادة خفية .