حبيبات البن اللذيذة ، التي نبدأ بها يومنا وتطيب بها أنفسنا ، ونشعر معها بالاتزان إذا ما تناولنا منها قدحًا واحدًا في اليوم ، والتي نالت شهرة واسعة في كافة أنحاء العالم ، قد لا تصدق أنه قد تمت محاربتها ومنعها في عهد العثمانيين ، وتلك هي قصة منعها .
كانت البدايات الأولى للحرب ضد القهوة ، في القرن السادس عشر ، خاصة مع انتشارها في كافة أنحاء العالم ، كالنار في الهشيم ، بعد أن عُرفت في مسقط رأسها وموطنها أساسي ، إثيوبيا ومنها إلى باقي الدول ، ولكن ذكر أحد المؤرخين بأن أصل القهوة والمقاهي ، يعود في الأصل إلى دولة اليمن ، حيث عرفت بها القهوة والمقاهي إبان فترة القرن الخامس عشر .
وكانت القهوة في هذا الوقت هي المشروب المفضل ، لدى الصوفيون من المسلمين ، حيث كانوا يتناولونها في احتفالاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية ، كما استخدمت كمقوٍ للذاكرة ومنشط بوجه عام .
ثم انتقلت ثقافة تناول القهوة ، إلى اسطنبول وهي موضوعنا الحالي ، مع مطلع القرن السادس عشر ، ومنها إلى أوربا في القرن التالي .
قصة السلطان مراد الرابع مع القهوة :
ذكر أحد المؤرخين بأن السلطان مراد الرابع ، كان قد أمر بمنع تناول القهوة في اسطنبول العاصمة ، حيث كانت رؤيته بأن هذا المشروب ، يمثل خطرًا قويًا ونشاطًا اجتماعيًا ، غاية في الانحطاط ، حتى أنه كان قد أعلن عن مكافآت ، لمن يدلي عمن يتناول القهوة ، ونزل إلى الشارع بنفسه متخفيًا ، في محاولة منه للقبض على كل من تسول له نفسه ، بأن يتناول القهوة أو يتورط في هذا النشاط الغريب ، غير المشروع !
وجدير بالذكر ، بأن السلطان مراد الرابع ، لم يكن هو الوحيد الذي هاجم القهوة ومنع تناولها ، وإنما كان هو أكثرهم وحشية ، فتكللت جهوده بالنجاح مقارنة بغيره.
وظل الجميع يحاولون تفسير هذا الهجوم الغريب ، على كل من كان يتناول القهوة في هذا الوقت ، ولم يجدوا مبررات سوى بأنها كمشروب ، اعتبره البعض بأنها تذهب العقل ولها تأثير مخدر ، مثل الخمور وهو اعتقاد شائع .
بينما برر البعض الآخر ، ومن بينهم السلطان مراد الرابع ، بأن القهوة لا تفعل شيئًا مميزًا ، سوى أنها تقتل العلاقات الاجتماعية ، بجلوس شاربيها على المقاهي ليلاً ونهارًا ، كما أنها تجمع الكثيرون حولها ، فيمكن من خلال تلك الاجتماعات أن تحدث مكائد ، ومؤامرات مباشرة يمكنها أن تودي بحياة السلطان نفسه .
أسباب السلطان مراد الرابع الخاصة :
كان للسلطان مراد الرابع ، خلف منعه للقهوة أسبابًا ، ذكرها المؤرخ التركي ، باكي تيزكان الذي روى بأن السلطان مراد ، أثناء مرحلة طفولته تمت الإطاحة بشقيقه الأكبر ، عثمان الثاني وهاجمه الإنكشاريون وقتلوه بوحشية ، ولم يكن الإنكشاريون سوى جماعة سرية ، من العسكريين نمت وتزايد عدد أفرادها بشكل سري ومخيف أيضًا .
وبعد أن تكونت تلك الجماعة السرية ، تمت الإطاحة بعثمان الثاني ، وعقب عام آخر أطيح بعمه ، ثم تم تنصيب السلطان مراد الرابع في حكم البلاد ، وكان مازال طفلاً آنذاك .
كان السلطان مراد قد عاش طيلة حياته ، خائفًا بشدة من الإنكشاريين ، ويتوقع غدرهم به في أية لحظة ، حتى أنه كان قد عانى ، من عدة انتفاضات أثناء فترة حكمه ، شُنق في إحداها أحد أصدقائه المقربين ، ممن اعتادوا أن يتناولون معه القهوة ، إلى جوار عددًا من المقربين منه .
كانت لتلك الحادثة أثرًا كبيرًا على نفس السلطان مراد ، فغضب بشدة وحاول من بعدها أن يسيطر على زمام الحكم ، بطريقة قاسية بشدة ، جعلته يظهر بصورة الحاكم الأكثر وحشية ، الذي يسارع في امتلاك القوة والسلطة المطلقة .
ولم يكن تصرف السلطان مراد ، ناجم سوى عن معلومات بشأن الإنكشاريين ، حيث علم أنهم يلتقون بالمقاهي ، المنصوبة في كافة أنحاء اسطنبول ، حتى أن بعضها قد علقت راية الانكشاريين ، وكانوا يستخدمونها للنقاشات بشأن عمليان الانقلاب على الحكم .
بالطبع لم يكن السلطان مراد يرغب في حدوث ، أية اضطرابات انقلابية أثناء حكمه ، فقام باتخاذ القرار الأكثر وحشية ، ضد الانكشاريين ، حيث أعلن منع المقاهي واستخدامها ، وأمر بإغلاقها مع تنفيذ حكم الإعدام ، في كل من يتم ضبطه يتناول القهوة !
كما فرض نفس العقوبة ، على تناول التبغ في الأماكن العامة ، وكذلك أماكن ارتكاب الرذيلة ، والحانات ، وعُرف عنه أنه كان شديد الغضب ، حتى أنه أمر بقتل بعض جنوده في إحدى فورات غضبه ، بل لقد خرج يركض إلى الشارع نصف عاريًا ، في إحدى تلك النوبات الغاضبة ، وقد أصر على قتل أي شخص يقابله في هذا الوقت .
وفي غمرة هذا المنع لتناول القهوة ، لم يمنع السلطان مراد تداول البن بالكامل ، بل تصيّد المقاهي التي كان يلتقي فيها الانكشاريون ، كما تناول السلطان مراد القهوة والخمور بنفسه ، وسمح بهما في الأسر ، التي لا ينتمي أي شخص منها ، إلى جماعة الانكشاريون .
وبحلول مطلع القرن السابع عشر ، أدركت أوربا أنه لا يمكن أن يتم منع تناول القهوة ، مع تجذّرها في ثقافات الشعوب ، فقام السلاطين العثمانيون بإلغاء قرار منعها ، وقرار إغلاق المقاهي أيضًا ، ثم فُرض مرة أخرى مع مطلع القرن الثامن عشر .
وكان الأمر في كل مرة ، يتضح منه أنه ليس فرضًا أو منعًا للقهوة ذاتها ، وإنما مطاردة للمعارضين والمتآمرين على الحكم ، والتضييق عليهم بأية وسيلة .
إلا أن الأمر انتهى بانتهاء القرن الثامن عشر ، حيث انتشرت المقاهي ولم يعد باستطاعة أحدهم أن يفرض حظرًا عليها ، بل لجأ الحكام إلى نشر رجالهم ، على المقاهي بين الجلوس ، لمراقبة الأحاديث بشأن الحاكم وسلطته والإبلاغ عنهم ، وهذا الأمر يتبعه أغلب الحكام ، حتى يومنا هذا .