Site icon ترند بالعربي – Trend Bel Arabi

قصة الجثة

لمع فجأة عندما كان يسير محاذيا لعمود الكهرباء ، تابع سيره ثم توقف ، عاد ليبحث عن بريقه فوجده عقدًا بحبيبات ملونة مرصوصة يشبه المسبحة ، تطلع نحو الأعلى حيث الضوء الفضي الشاحب يمدّ أذرع نوره ليداعب بدفئه البارد جسد الرصيف ، قذف العقد في الهواء ثم التقطه ووضعه في جيبه .

تفكير وصراخ :
فكّر : سأنام اليوم ، يجب أن أنام ، اتخذ قراره ، وأسرع باتجاه دكان حبيب ، القريب حيث اشترى بما تبقى من ماله أكبر زجاجة عرق ، لم يكن أمامه خيار آخر ، إما الصغيرة وإما الكبيرة ، سجلّ في قائمة ديونه الطويلة في علبتين من السجائر ، ومشي ساحبًا ، قديمه بتعب مفاجئ واضعًا الزجاجة تحت إبطه ، محاولاً إطالة المسافة نحو بيته قدر الإمكان ، سار في أكثر الأزقة ضيقًا وعتمة ، طارد القطط ، صرخ بأعلى صوته : أتسمعني يارب ؟ إن كنت تسمعني فأجب .

في الباحة :
حطمه الصدى المرتد ، هزّ أحشاءه ولكن أحدًا لم يرد ، فقط سمع سبابًا آتيًا من إحدى النوافذ التي أضيئت ، دسّ المفتاح في الثقب الصدئ ، أداره نحو اليسار ولكنه لم يستجيب ، ضغط عليه دون فائدة ، حاول إخراجه فلم يستطيع ، عندها ابتعد إلى الوراء قليلًا ، ثم دفع الباب بقدمه فتحطم الخشب المتآكل ، دخل وصفق بقاياه وراءه ، سار في الباحة الرطبة ضاغطًا بحذائه العسكري الثقيل ، فوق الأوراق الصفراء الهشّة .

نظر إلى انعكاس القمر في ماء البركة ، زج رأسه في الماء اللزج إلى أن أحسّ بالاختناق والتجمد ، انتفض نظر في وجه الماء مرة أخرى ، فوجد قمرًا آخر ، منكسرًا هلاميًا ، فتح باب غرفته ، أنار المصباح الأصفر ، جلس على حافة السرير ، ونزع فردة حذائه ، رماها إلى الزاوية ثم نزع الأخرى ، تأملها طويلاً ، كانت هرمة ، وسخة ، وممتلئة بالطين ، رمى بها إلى الزاوية الأخرى .

سقوط وإرهاق :
ارتد إلى الوراء وسقط فوق سريره المعدني الذي صرّ بألم ، غاص في جوف السرير ، نظر إلى جوربه المثقوب ثم نظر إلى المصباح ، وأغلق عينيه نصف إغماضه ، تذكر العقد ، أخرجه وتأمله في ضوء المصباح ، كان يلمع بنزق وكأنه يشاكسه ، حبيباته مزينة بزهور دقيقة صغيرة ، رماه قربه ، أشعل سيجارة وفتح الزجاجة .

صبّ ثلاثة أربع كأس صغيرة وذهب إلى المطبخ ليحضر الماء ، عندما أضاء النور تراكضت الصراصير في اتجاهات مختلفة ، اتجه نحو المغسلة وأخذ زجاجة فارغة موضوعة على حافتها ، فتح الحنفية ففحّت ، فقال : إلى الجحيم .

الأحمق يلعب معي :
نزع سترته وراماها فوق الكرسي ، شغّل الراديو ، قلب موجاته ثم أطفأه ، رشف ، أشعل سيجارة أخرى من العقب ، أغرقه في المنفضة ، رشف ، استلقى فتضايق ، أخرج العقد الذي أنغرز في خاصرته.

الأحمق يلعب معي رفعه على امتداد ذراعيه ، كان يتلألأ بغنج دافئ ، ترى كيف أضاعته ؟ انزلق عن رقبتها ، القفل معطل ، لمس الحبيبات برفق فأحس بدفئها ، عنقها دافئ ، شعرها شايب ، عيناها ضبابيتان تحيط بهما التجاعيد ، تشبه أمي ، سقط الرماد فوق المفرش ، أنزل يديه ، رمى عقب السيجارة ، حبس العقد في قبضته .

لا إنها صبية ، وجنتان متوردتان ، شعرها ؟ ربما يكون جسدها ممتلئًا ، تمطى باتجاه الكأس ، شربها دفعة واحدة : كعبه أبيض ، عاد للاسترخاء ، آخر مرة لمست فيها امرأة متى ؟ متى ؟ نسيت ، ضرب براحته على جبينه ، عام ؟ لا أربعة أعوام ؟ لا قرن .

الجثة :
ضحك نظر إلى السقف فرأى جثتها الجافة مسجونة في نسيج العنكبوت ، ارتجف ، أيقظه الرعد ، قطرات المطر التي تحاول اقتحام الزجاج فتتحطم بيأس ، وصفير الريح المتسللة من شقوق النافذة ، كم هي كريهة .

شرب من عنق الزجاجة فاحترقت أذناه وعيناه ، أحس بأحشائه تبدل أماكنها ، دمها كان مالحًا ، مالحًا جدا ، وكانت تصرخ وتتلوى ، تتحداني ، دمعت عيناه ، حاول التحديق في الجثة ، ها هي آثار أسناني على رقبتها ، مصصت دمها كله ، ولكن يالبشاعتها ! جلدها مجعد ، عيناها غائرتان ، احترق .

بكاء حارق :
أمسك اللهب ، بجسده ، تقلب في الفراش ، محاولا الابتراد به ، بحث في برودته دون فائدة ، أحس بلزوجة في سرواله فجلس ، بدأت القطرات باختراق خشب السقف العفن ، هوت فوق وجهه ، فوق الحذاء ، فوق الطاولة ، في الكأس الفارغة ، فوق العقب المشتعل ، نظر إلى السقف فرأى جثة عنكبوت جافة ، تتدلى في الشبكة معلقة من إحدى ساقيها فبدأ يبكي ، ثم تحول بكاؤه إلى نشيج استمر حتى الصباح .

Exit mobile version