قصة نهاية بطلة

لم تكن مدينة ميلانو الايطالية على علم بقدوم كريستين تريفولس ، تلك الفتاة التي ولدت هناك وخلد التاريخ ذكرها ، فهي واحدة من الفتيات اللاتي وهبن حياتهن من أجل التخلص من الاستعمار وتحرير الوطن من جرائمه الشنيعة .

فقد تعرضت كريستين للموت والتشريد والنفي من الوطن من أجل انتمائها وإيمانها الكامل بالحرية ، والجدير بالذكر أن تريفولس كانت من أسرة شديدة الثراء ، حيث ولدت بميلانو الايطالية عام 1808م ، ولكنها حينما فتحت أعينها الغضة ، وجدت الجيوش النمساوية تنتشر في كل مكان ، وتحتل المقاطعة التي تعيش بها وترتكب فيها أبشع الجرائم تحت مسمى الاحتلال ، بالإضافة إلى فرض الضرائب الباهظة عليهم .

لذا لم تجد كريستين نفسها إلا وهي تأخذ منعطف ايجابي للدفاع عن قضيتها ، وأخذت تدرس وتثقف نفسها بنفسها حتى زاع صيتها في كل أنحاء ايطاليا ، فقد كانوا يتحدثون عن تلك الفتاة المثقفة التي درست مختلف العلوم وأصبحت تجادل أئمة الأدباء والمفكرين .

وعلى الرغم من جمالها الباهر وتقدم الخطاب لها في كل حين ، إلا أن كل ما كان يشغلها هو تحرير الوطن ، فقد أثرت أن ترتدي الزي العسكري بدلًا من زي الزفاف وتحمل السيف والخنجر لمقاومة العدو الغاشم ، وأخذت تنادي بضرورة التخلص من المستعمر عن طريق الكفاح المسلح .

لأنها كانت تؤمن أن الهتافات الرنانة والخطب وحدها ليست كافية ، ومن ثم شجعت الناس على الكفاح وتكوين الكتائب ، وكانت تمولهم من مالها الخاص ، كل هذا من أجل أن يشعر المستعمر أن وجوده في مقاطعة لومبارديا هو الجحيم بأم عينه .

وكان من الطبيعي أن تلتفت الأعين على فتاة تمتلك كل هذا القدر من الشهرة والشعبية ، خاصة أنها كانت فاتنة الجمال ، ومن ضمن تقدم إليها كان أحد الشرفاء الأثرياء ، ويدعى الأمير بليوزو طلب يدها فوافقت ، وكان هو الأخر يمتلئ حبًا للوطن ورغبة في تحرير ترابه .

ولم يشغلها زواجها عن استكمال مسيرة الكفاح حيث أخذت تبث روح المقاومة في حزب الكربوناري عدو النمسا وضمت إليه مجموعة أطلقا على نفسها الجردنيرا ، وبدئوا بعدها سلسة من الهجمات على قوات الاحتلال استطاعوا بها إنهاك قوات المحتل .

ومن هنا ارتفع اسمع كريستين عاليًا وأصبحت محط أنظار الناس وحديثهم ، ولم يحرك في تلك الصامدة الساكنة أي شيء سوى انكسار كرامتها وكبرياءها بعد خيانة زوجها لها ، فبدلًا من أن يشعر بقيمة الأيقونة التي في يده تعرف على امرأة أخرى وامتدت خيانته حتى طالت الوطن .

فتعاون مع المستعمر وفض يده من ثورة النضال التي كان يشنها مع زوجته كريستين ، وجاءت الطامة الكبرى حينما رأته زوجته يدخل المسرح ذات يوم مع خليلته وهم في حالة تودد وهيام ، فانهارت وسقطت على الأرض مغشيًا عليها ، وبعدها انغمست في الجهاد والمقاومة حتى تنسى الخيانة.

ولكن سرعان ما امتدت لها يد الغدر وتم زجها بالسجن ، لكنها لم تتحمل الحياة هناك مع البغايا والمجرمات ، فتدخل زوجها بعلاقاته مع النمساويين وأطلق صراحها ، ولكنهم اشترطوا نفيها فاختارت باريس منفى لها ، وهناك تعرفت على أكبر العلماء والمفكرين والأدباء وأقامت صالونًا أدبيًا هناك وأخذت تقلب الحكومات ضد المستعمر النمساوي .

وظلت تكافح حتى التقت بشاب شديد الوسامة شديد الوطنية حينما عادت لوطنها ، ويدعى جايتانو ستيلزي ، أحبته من أعماق قلبها ولكن القدر لم يمهلها الفرصة لتعيش معه ، ففي محاولة منه لتدمير مخزن الذخيرة بمعسكر الأعداء ، تم إطلاق الرصاص عليه وأصيب بجراح نافذة استطاع منها أن يهرب ويصل لقصر حبيبته ، ولكنه لفظ أنفاسه الأخيرة بين يديها .

لم تستطيع كريستين احتمال تلك الصدمة ، فأحضرت طبيب وطلبت منه تحنيط جثة البطل  ووضعتها في حجرتها ، وكانت تقضي معه الوقت بالساعات وهي تحادثه وتنظر له بمزيج من الأسى والحب ، وسرعان ما عرفت قوات العدو مكان القصر المهجور الذي تعيش به كريستين فهاجموها ، وكانت حينها في الغرفة مع الجثة المحنطة تحمل خنجر وتحاول قتل نفسها للحاق به .

ولكن تمكنت قوات العدو من إيقافها ، وأثناء ذلك علمت القوات الموالية لكريستين بما يحدث ، فجاءوا من مختلف الأزقة والدروب ودارت بين الفريقين معركة دامية استطاعت معها كريستين الهرب لبيت أحد الفدائيين وبعدها تمكنت من السفر إلى فرنسا مرة ثانية واستقرت بباريس لتثير أقطاب السياسة هناك وتحسهم على استعداء النمساويين .

وبالفعل تدخلت الحكومة الفرنسية في النهاية وأجبرت الجيش النمساوي على الانسحاب من مقاطعة لومبارديا ، وتوحدت ايطاليا على يد الزعيم كارفور ، وحينها عادت كريستين لوطنها برأس مرفوع واستقبلها الشعب بكل ترحاب ، وبعدها عاشت كريستين بقصرها المهجور نفسه ، وظلت هناك حتى ماتت سنة 1871م في الحجرة نفسها التي كان يرقد بها حبيبها .